بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان روح وجسد ، وللروح حاجاتها ، كما أن للجسد احتياجاته ، وهو يقضي كل حياته في العمل على تلبية تلك الاحتياجيات ، لكن مشكلة الإنسان أو وعيه بما هو محسوس وملموس من الحاجات أقوى وأعمق بكثير من وعيه بحاجاته الروحية والمعنوية ن ولهذا فإن المألوف أن يبذل الكثير الكثير من أجل الطعام والشراب واللباس وكل ما يرفِّه جسده ، على حين أنه لا يكاد ينفق على تثقيف عقله إلاّ في حيِّز الضرورة والحاجة ، أما إدراكه لما يعاني من تدهور روحي ومدني ، فيكاد يكون غائباً ، وهذا شيء يدعو إلى الأسى والحسرة!
نحن نلاحظ اليوم أن الثقافة السِّلْعية ذات الأبعاد الحسيِّة آخذة في السيطرة يوماً بعد يوم ، ويمكن أن نلاحظ هذا في نشاط المطاعم والفنادق وشركات السياحة والسفر ، وفي هذا التفتح العجيب على هندسة ( الديكور ) وتزيين المساكن على نحو لم يسبق له مثيل! بتعبير موجز قد صرنا أكثر دنيوية ، وصار مناط اهتماماتنا أكثر حسية وأكثر ( شخصانية ) ولا شك في أن هذا أحد الآثار السيئة لـ( العولمة ) الآخذة في اكتساح العالم بالطول والعرض.!
لست أدري هل هذه الوضعية المغرقة في التلهف على المتعة وتكديس الأشياء هي بسبب ضعف الثقافة الروحية والأدبية والأخلاقية لدينا ، أو هي السبب المباشر الذي يؤدي إلى إنهاك هذه الثقافة وطمس معالمها؟
على كل حال فإن من المهم أن ندرك أن قدرة وعينا على فهم جوهر احتياجاتنا محدودة ، كما أن قدرته على تحقيق نصاب التوازن بين حاجاتنا الروحية وحاجاتنا المادية أيضاً محدودة ، ولهذا فنحن ننتقل من تطرف في جانب من حياتنا إلى تطرف في جانب آخر منها ؛ والملاحظ اليوم على نحو لا فت أن اهتماماتنا بتلبية حاجات الجسد قد صارت طاغية إلى حد الإزعاج ، على حين أن مخزوننا من الطاقة الروحية آخذ في النفاد ، وذلك بسبب ضعف تزويده وتراجع الاهتمام به.
إن ثقافة الاستحواذ واللهو والتسلية والتمتع تحقق انتصارات متتالية على ثقافة المعنى ، والتضحية وإيثار الآجل على العاجل ، وثقافة العطاء غير المشروط ، والقلق على المصير الأخروي ، وهذه الوضعية سوف تؤدي إن عاجلاً أو آجلاً إلى إلهاب نار الخصوصية وإثارة أسئلة الهوية : من نحن؟ وماذا نريد؟ وما علاقتنا بالآخر؟ وأين يكمن الخطأ في أوضاعنا؟ وأين يكمن الصواب؟ ولماذا يحدث لنا كل هذا..؟!
ولن تكون الأسئلة على كل تلك التساؤلات سهلة أو راشدة في معظم الأحيان!
المشكل أنه ليس لدينا أي جهة تراقب الخلل الذي يطرأ اليوم على نوعية حياتنا ، وليس هناك بالتالي أية مشروعات كبيرة لمعالجة ذلك الخلل ، مما يعني حدوث انهيارات وتداعيات خارجة عن نطاق السيطرة والإدارة ، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث.
أنا أشعر أن كل بلد من بلدان المسلمين بحاجة إلى جهة قوية ونشطة تضع المعايير لنوعية الحياة التي ينبغي أن يحياها الإنسان المسلم ، كما تقوم بإنشاء المشروعات العملاقة التي تستدرك على ما يطرأ على تلك الحياة من خلل في الجانب المادي والفكري والروحي والاجتماعي.
فهل سنسمع عن ولادة مؤسسة من هذا القبيل.؟
آمـل ذلك...