
كيف نعبِّر عن الانتماء الحقيقي للوطن؟
تُعد القيم في كل مجتمع معايير للسلوك الإنساني ، والمجتمع المتوازن هو ذلك المجتمع الذي ينشر فيه الوعي بالقيم ، والالتزام بها ، ويرتبط بازدياد الوعي بالقيم والإحساس بها مفاهيم التقدم والتفاؤل والنظام والترابط.
والأمر الذي لا جدال فيه هو أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في مجتمع دون قيم تحكم سلوكه سواء على مستواه الفردي أو المجتمعي ، حيث إن الإنسان كائن أخلاقي لديه بالفطرة ضمير يلزمه بالسلوك الأخلاقي القويم ، باستثناء من فسدت فطرتهم ولم يمتثلوا للضمير الإنساني السليم ، وهؤلاء هم الشواذ الذين لا ينتمون إلى المجتمع الإنساني السليم ، ومن الحقائق الواضحة أن منظومة القيم الأخلاقية لها جذورها الضاربة في أعماق النفس البشرية لدى الشعوب المختلفة من لدن آدم عليه السلام حتى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة ، ومن بين القيم العديدة التي نتمنى أن نجد لها مكاناً بارزاً في حياتنا الخاصة والعامة قيمة الانتماء ؛ والانتماء يعني الانتساب المقرون بالولاء للمؤسسة التي يعمل فيها الإنسان ، والانتماء لمهنة من المهن ، والانتماء للأسرة ، والانتماء للعقيدة الإسلامية… الخ.
ومن الواضح أن الانتماء ينبني على أساس أن الجهة التي أنتمي إليها قد أسدت لي صنيعاً ، وأني مدين لها بالفضل ، وأرى من واجبي أن أحفظ لها هذا الجميل وأرد لها هذا الدين ، ومثال على ذلك ما نشعر به من انتماء وولاء للوطن ، فالوطن له في القلوب منزلة عظيمة ومكانة فريدة ، فهو المكان الذي ولدنا فيه ، وعشنا على أرضه ، ونعمنا بخيره ، وتنفسنا هواءه ، وهو الذي يحمل أغلى ذكرياتنا في طفولتنا وشبابنا وكهولتنا وحتى آخر لحظات عمرنا ، لا نرضى عنه بديلاً مهما كانت الأحوال ومهما تعرض لمحن وأزمات.
ولذلك قال الشاعر النيل حافظ إبراهيم :
بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة …. وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام
ومن منطلق هذا الشعور الغامر بالحب والانتماء والإعزاز الذي يشعر به كل مواطن نحو وطنه كان قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندما هاجر من مكة إلى المدينة مخاطباً موطنه العزيز مكة : " والله إنك أحب أرض الله إلى نفسي ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت " وذلك على الرغم مما تعرض له في وطنه مكة من ألوان الإيذاء والغدر والعدوان على يد مواطنيه المكيين الذين عفا عنهم جميعاً عندما عاد مرة أخرى إلى وطنه مكة فاتحاً منتصراً.
والشعور بالانتماء للوطن والولاء له هو الذي يجعل المواطنين يهبون للدفاع عنه ضد أي خطر يتهدده ، ويبذلون في سبيله الدماء والأرواح فداءً له ودفاعاً عن عزته وكرامته ، فقيمة الانتماء للوطن في حاجة مستمرة إلى ترجمة حقيقية لعمل ملموس يرفع من شأن الوطن ويعلي من مكانته.. وهذا يتطلب تربية أبنائنا على المحافظة على شوارعه ومدنه وقراه ، ونظافته أو إفساد ، والضرب بشدة على كل من تسول له نفسه أن يعبث بشيء من مقدرات هذا الوطن ، كما ينبغي أن نحرص على سمعته وكرامته ، وأمنه واستقراره ، وعلى حماية المال العام ، ومرافقه العامة ، واقتصاده وذلك كله ما هو إلا تعبير عن الانتماء الحقيقي للوطن ، وترجمة صادقة للولاء والحب الذي تكنه القلوب للوطن.
ومن ذلك يتضح أن قيمة الانتماء للوطن قيمة شاملة لكل ما يتعلق بهذا الوطن ، إنها تشمل كل ما يمكن أن يتصوره المرء من جهود تبذل لتقدم الوطن ومواطنيه حتى تظل رايته خفاقة عالية تمثِّل شموخ الوطن وعزِّة المواطنين ، ولقد طرأت على المجتمعات البشرية المعاصرة تغيُّرات كثيرة ومستجدات متعددة في كل المجالات كان لها تأثيرها المباشر وغير المباشر على سلوك الأفراد والجماعات سلباً وإيجاباً.
ولا شك في أن الكثير من هذه التغيُّرات قد أحدثت الكثير من الاهتزاز في القيم ، فقد تغيّرت النظرة إلى بعض القيم ومنها قيمة الانتماء وبخاصة من جانب مجموعة من الأجيال الجديدة التي تبدي تمرداً على الكثير من عادات المجتمع وقيمه.
ولعل الاهتزاز في القيم الذي طرأ على مجتمعاتنا يرجع من ناحية إلى المتغيِّرات التي طرأت على حياة المجتمع ، ولكنه في جانب كبير منه يرجع إلى افتقاد القدوة والنموذج في البيت والمدرسة والعمل..إلخ.
ولذلك فنحن في أشد الحاجة إلى فهم المتغيّرات الاجتماعية ، وطموحات واهتمامات الأجيال الجديدة حتى نكون أكثر قرباً منها ، وبالتالي نكون أقدر على مساعدتها ، إننا في حاجة إلى غرس قيمة الانتماء في الجيل الجديد ، ومن واجبنا أن نرشدهم إلى الطريق الصحيح ، ونبيَّن لهم مخاطر الطريق حتى يشقوا طريقهم انتماءً للوطن ، وسيراً على درب الأجداد لتستمر الحياة كريمة عزيزة إلى حيث أرادها الله