
طريقة بناء البيوت قديما في الجنوب موضوع رقم 6
بعد عودة والدي من الطائف وبعد أن جمع حفنة من النقود الفرنسية شرع في بناء الدور الثاني لمنزلنا حيث تمت آلية البناء وفق الآتي :
1-قام والدي بإبرام عقود شفهية مع البنّاء ويسمى ( ــــــــــــــ) من قرية ـــــــــــ ومع النجار ( ــــــــــ) من قرية ــــــــــــ ومع شخص آخر اعتبره كعامل ، رحمهم الله جميعا .
2-أحضر والدي الأخشاب الضرورية ( سيقان شجر الطلح وسيقان شجر الحمض والنظار) والجراع وهو يشبه قصب الذرة لكنه أطول بكثير ويبدو أقوى .
3- أحضر المواد الضرورية مثل ( النطف أو الرقف ) وهو رقائق من حجر على هيئة مستطيلات أو مربعات أو مثلثات ، وقد قام بنفسه وبمساعدة بعض الأقارب باستخراجها من موقع يبعد عنا بحوالي عشرة كيلو مترات وكانت المواد تجلب إلى قرب المبنى على ظهور الحمير ، أمّا الأخشاب فكانت تحمل على أكتاف الرجال .
4-اشترى والدي الدواب الضرورية مثل ( البقر والحمير والغنم ).
5-قامت والدتي بطحن كمية كبيرة من الحبّ بأنواعه بوساطة الرحى.
6-اشترى والدي أقتاب الأبقار وبرادع الحمير بالإضافة إلى شرائه للسمن البلدي .
7-أعدّ الحبال اللازمة والبكرات الخشبية ، والأدوات المصنوعة من سعف النخيل غير المثمر ( الخبار ) ويطلق عليها ( المناعش والمكاتل أو المقاطف ) كما أحضر أدوات الحفر البدائية مثل( المساحي والفرس والحكلان ) .
8-أحضرت والدتي كمية من الطين المبيّض للمبنى ويسمى ( الخرف والقص أو الجص ) من مكان يبعد عنا سبعة كيلو مترات تقريبا
9- قام والدي والعامل بحفر حفرة كبيرة على شكل دائرة قطرها حوالي عشرة أمتار وعمقها لا يقل عن متر ونصف المتر ، وتسمى هذه الحفرة ( المخلابة ) . كما حفرا إلى جوارها حفرة أخرى بعمق 3 أمتار وقطر قد يصل إلى مترين وتسمى تلك الحفرة ( المركى ) والحفر كان يدويا .
10-تم إنشاء جدول لإيصال الماء من البئر إلى المخلابة والمركى ويطلق على ذلك الجدول ( المسكرة ) .
11- شرع والدي في تجهيز اللبن ( الخلب ) وذلك بأن أحضر طينًا أبيض اللون من مسافة تصل إلى كيلو ونصف الكيلو متر على ظهور الحمير ووضع ذلك الطين الأبيض المسمى بـ ( الصفرة ) فوق طبقة من الرمل الأسود ( بطحاء) أحضره من الوادي القريب منّا ، في المخلابة . ثم أضاف إلى كمّ الصفرة والرمل طينًا من بيت قديم يسمى ( النُقض ) .
وبعد أن وصل سمك الطين المخلوط في المخلابة إلى حوالي 80 سم ، قام بريّ المخلابة بالماء باستخدام الثيران في رفع الماء من البئر وسار الماء عبر الجدول ( المسكرة ) إلى المخلابة .
ملأ المركى بالماء أيضًا وهو أشبه بصهريج ( مستودع للماء) يستخدم ماؤه للرش في اليومين التاليين .
في اليوم الثاني وعقب صلاة الفجر قام بخوض المخلابة بثورين ابتداء من الفجر إلى قبيل صلاة المغرب ، وتسمى تلك العملية بــ ( برصع المخلابة ) وقد أضاف شيئًا من التبن للمخلابة ليزيد من تماسك الطين ، وبعد أن استوى الخلب ، قام مع مساعده بقلب المخلابة ( قلب الطين ) بواسطة المساحي . وبذلك أصبح اللبن( الخلب ) جاهزًا لاستخدامه في البناء .
12- في اليوم التالي حضر البنّاء ، وقبل الشروع في رصف اللبن ( الخلب ) كان على أهل البيت إطعامه برًا وسمنًا لوحده .
13-استعان والدي بمجموعة من أهل القرية لمساعدتهم في ذلك العمل الشاق ، ويسمى ذلك اليوم يوم ( الدّمك ) حيث قام مجموعة بإحضار الخلب من المخلابة على ظهور الحمير إلى قرب البيت ، ثم رفْع اللبن إلى الأعلى بواسطة بكرة خشبية ( عجلة ) يجرها ثور .
يستلم المكتل الممتلئ بالخلب شخص فوق السطوح ويطلق على تلك الرافعة ( كَلَب ) ثم يقوم أشخاص آخرون بتقطيع الخلب ومناولته للبناء ليصفّ الخلب مشكّلا ما يسمى بالمدماك ، وهو حائط جزئي من المبنى يصل ارتفاعه إلى حوالي 50 سم وعرضه كذلك .
أثناء العمل في ذلك اليوم يتناول الجميع طعام الإفطار ويسمى( قروع) وهو عبارة عن خبز في التنور يؤكل مع قهوة، وعقب الانتهاء من المدماك الأول وعادة يتم الانتهاء وقت صلاة الظهر يتناول العمال وجبة دسمة وهي عبارة عن ( لحم وعصيدة ومرق )
قامت والدتي بإعداد تلك الوجبات بمفردها حتى تم الانتهاء من بناء اثني عشر مدماكًا استغرق كل مدماك إعدادا وبناء وتجهيزًا ثلاثة أيام تماما .
14-في اليوم الثاني من صفّ المدماك وأثناء إعداد الخلب في المخلابة لبناء المدماك الثاني ( رصعه ) قامت والدتي بطلاء المدماك الأول مستخدمة الخرَف ثم الجص المشار إليهما، وبمفردها.
15-أثناء عملية البناء قام النجار بإعداد النوافذ الخشبية ( اللهوج ) وكذلك سقف السلم ، من الخشب ، إلى جانب إعداد أعمدة سقف المنزل الخشبية العرضية مثل ( العسيل ) وقطع الخشب الصغيرة( السهوم ) وبعد تسعة مداميك تم تثبيت العسيل أولا . وبعد المدماك العاشر تم تثبيت السهوم فوق المدماك من طرف وفوق العسيل أيضا من الطرف الآخر . بعد أن أصبحت السهوم جاهزة والمسافة بين السهم الواحد والآخر 50 سم. تقريبا بدأوا بتغطية الفراغات التي بين السهوم باستخدام الجراع وذلك بصفّه فوق السهوم وربطه بالخبار حتى لا يتحرك ، وأخيرا تم وضع الخلب فوق الجراع وتسمى تلك العملية بــ( الودفة ) وسمك الودفة حوالي 15 سم.
أضاف والدي ثلاثة مداميك فوق السطح كسترة للبيت ، كما أضاف مطبخًا صغيرًا ( مسقفًا ) .
بعد أن أنهى البنّاء والنجار والعامل والعامل أعمالهم ، قام والدي بذبح شاة إكراما للجميع ثم ناول كل من البنّاء والنجار والعامل أجرتهم وفوق ذلك ( كساهم ثيابًا وغترًا ) .
وقبل مغادرتهم لبيتنا كان لزاما عليهم إعلام أهل القرية بأنهم استوفوا كامل حقوقهم وتم إكرامهم أيضا، لذلك اعتلى أحدهم سطح المنزل ثم صدح بعبارة ( من هي له البيضاء فهي مبنية من بيشة الغيناء لنجران – فهي لـــــــــــــــ بيّض الله وجهه ) وكان ذلك بصوت عال فردد أهل القرية كل من موقعه ( بيض الله وجهه ) وهذا نوع من الوفاء ، وله مدلول كبير لدى الشخص والسامعين .
تلقت أمي تعبًا شديدًا من عملية البناء فهي التي قامت بإصلاح الطعام وتغذية الثيران والحمير وكذلك هي التي قامت بطلاء المداميك وإحضار مياه الشرب بواسطة القرب وغير ذلك من المهام الشاقة . ثم ظهرت لها مشاق أخرى ( مهام ) فعليها أن تعيد تنوير المنزل من الداخل بالجص الأبيض ، وأن تقوم بطلاء أرضية المنزل بنوع خاص من الطين ثم تقوم بعمل وزرة ( أي ما يساوي إرتفاع مترواحد ) من الأرضية تطليه بعصارة ورق البرسيم ويسمى ذلك ( خضار ) وكذلك تقوم بتخضير الأرضيات بورق البرسيم.
في ذلك الحين لا توجد مفارش كافية ومتنوعة لتغطية أرضيات الغرف ، وكان الموجود في ذلك الوقت البسط المصنوعة من غزل الغنم ( اللحف ) والفرش المصنوعة من جلود الغنم ( الملاحف ) . تستخدم اللحف كبسط للجلوس عليها ، أمّا الملاحف فتستخدم للتدفئة أثناء النوم .
قامت والدتي بعمل ما يسمى ( بالقطّة ) وهي عبارة عن ثلاثة خطوط شبه مستقيمة تعلو الوزرة ( الخضار ) وقامت كذلك بتجهيز الدار وهي الغرفة الأساسية للنوم والوحيدة وذلك بتعليق ألواح خشبية بين أركان الغرفة ويطلق على كل لوح خشبي ( السياع ) ويستخدم السياع لحمل اللحف والملاحف لتبقى معلقة وبعيدة عن الأوساخ , وتوضع اللحف والملاحف مثنية , وتستخدم الثنيات كمستودع لحفظ الأشياء الثمينة وتسمى الكُفلة .
جهزت المسقف ( المطبخ ) بتثبيت التنور فيه وتجهيز مكان لحفظ كمّ معقول من الحطب ( حضن ) ويسمى ذلك ( بالمصْلا ) وأعدت الأثافي ( ثلاث حجرات ) لتنصب فوقها ( البرمة أو القدر ) . وأعدت المصواط ( غصن شجرة طلح مقشور بطول نصف متر تقريبًا ينتهي رأسه بزائدتين ليسهل تقليب العصيدة والرواكة بواسطته أثناء إعدادهما ) .
في ذلك الحين كان الداعي من الجماعة إلى تناول طعام في بيته عليه أن يقدّم لمعازيمه اللحم أولا في صحفة خشبية ويطلق عبارة معروفة أثناء وضع الصحفة أمامهم ( حيّ لحاهم ) فيرد الحاضرون من الرجال ( حيّه وما جابه ) ، وللمعلومية، النساء لا يحضرن هذه المناسبات البتة . ينتدب الداعي أحد الحضور ليقوم بتوزيع اللحم ( تقسيمه ) على الحاضرين بقدر معين بحيث يعطي كل شخص حسب أهميته نوعًا معينًا من اللحم ( مثل القادم – المخروقة – الأضلاع – الرجل – الكتف – المحقور – الظهر ) ويعتبر المحقور ( يد الذبيحة مما يلي الأظلاف ) من نوع اللحم الذي يشعر الحاصل عليه بنوع من التحقير أو الإهانة ولكنه يقبله ، وإذا أراد الجماعة مدح إنسان رددوا عبارة ( قسمه القادم ) وقسم القادم هو مجموعة من الأضلاع مما يلي رقبة الشاة ، وعلى العكس إذا أرادوا إهانة شخص رددوا عبارة ( قسمه المحقور ).
بعد أن يأكل الجميع ما تيسر من اللحم ، يحتفظ كل إنسان بجزء من قسمه وهو في الواقع جوعان ليعطيه زوجته وبناته في البيت ويسمى ذلك ( بالخبيّة ) ويحفظ الرجل اللحم بين ثوبه وجلد بطنه أي فوق حزامه . وكان من المستحيل ، بل من العيب أن يمشي الرجل بدون حزام وكان يوجد به سلاح ( سكين أو خنجر أو سبك ...).
يقدم الداعي بعد ذلك العصيدة والمرق فيقوم القوم حسب السن بغمس لقيمات العصيدة في المرق ( والله يعين ربة البيت على تحريك الدقيق في الماء المغلي لتحضير ما يسمى بالعصيدة كون استهلاك القوم للعصيدة كثيرا ) .
كان الرجل في ذلك الحين يأكل كمّا هائلا من الطعام نظرًا للفقر المدقع ، ومع ذلك يفضل الرجل أن يموت دون أن يستهزيء أحد بكمّ أكله أو طريقته في التهام طعامه ، وكان إذا نهض كبير القوم نهض الباقون لإفساح المجال لمن يأتي بعدهم وتسمى كل مجموعة بـ ( الثّبة ) .