
دراسة في العقـــــــــــــل (الحلقة الأولى)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فهذه نبذة مختصرة في "العَقْل": مَعناهُ،وإِطْلاقاتِهِ،وأسمَائهِ،ودِلالتِهِ،نفع الله به كاتبه،وقارئه.
-معنى العقل لغة:
العقل في لغة العرب:الحبس والمنع والإمساك،يقال:"اعْتُقِل الرجل"إذا حبس،و"مرض فلان فاعتُقِل لسانه"إذا منع من الكلام؛فلم يقدر عليه،قال ذو الرمة:
"و مُعْتَقَل اللسان بغير خَبْلٍ يميد كأنَّه رجلٌ أميمُ".
ويقال:"عقل البعيرَ،يعقِلُهُ عقْلاً،وعقَّلَه،واعْتَقَلَهُ"إذا ثنى وظِيْفَه مع ذراعه،وشدَّهما جميعاً في وسط الذراع،ويقال:"عَقَّلَ الإبل"من العقل؛شُدِّدَ للكثرة،قال بقيلة الأكبر،وكنيته أبو المنهال:
"يُعَقِّلُهُنَّ جَعْدٌ شيظميٌّ وبئس مُعَقِّل الذَّوْد الظُّؤارِ".
و"العِقَال"الحبل الذي يُعْقَلُ به،وجمعه عُقُلٌ.
و"العُقَّال"ظَلْعٌ يأخذ في قوائم الدابة،قال أُحيحة بن الجلاح:
"يا بَنيَّ التُّخَومَ لا تظلوها إن ظلم التخوم ذو عقَّال".
و"اعتقلتُ الشاة"إذا وضعت رحلها بين فخذيها،أو ساقيك لتحلبها،و"اعتقل رمحه"إذا جعله بين ركابه وساقه،و"اعتقل الرَّحلَ"إذا ثنى رجله فوضعها على المورِك،قال ذو الرمة:
"أطلتُ اعتقالَ الرَّحْلِ في مُدْلَهِمَّةٍ إذا شرك الموماة أودى نظامها".
أي:خفيت آثار طُرُقها.
و"العَقُول"بالفتح:الدواء الذي يمسك البطن،يقال:"أعطني عقولاً أشربه"إذا طلب دواء يمسك بطنه.
و"عَقَلَ الوَعِلُ،يَعْقِل،عُقُولاً"إذا امتنع في الجبل العالي، و المكان الممتنَ فيه يسمَّى "الـمَعْقِل"،وبه سُمِّي الوَعِل عاقلاً،قال النابغة الذبياني:
"وقد خِفْتُ حتى ما تزيد مخافتي على وَعِلٍ في ذي الـمَطارة عاقِلُ".
وبالدهناء خَبْراء يقال لها:"مَعْقُلَة"بضم القاف؛سميت بذلك لأنها تمسك الماء كما يَعْقِل الدواء البطن،قال ذو الرمة:
"حُزَاويَّةٍ أو عَوْهَجٍ مَعْقُلِيَّةٍ تَرُود بأعْطافِ الرمال الحرائرِ".
وتسمى الديةُ عَقْلاً ومَعْقُلَة،يقال:"القوم على معاقلهم الأولى"أي:على ما كانوا يتعاقلون في الجاهلية كذا يتعاقلون في الإسلام،و"عقَلْتُ عن فلان"أي:غرمت عنه جنايته إذا لزِمَتْه ديةٌ فأديتُها عنه،و"عاقِلَة الرجل":عصبته،وهم القرابة من قبل الأب يعطون دية من قتله خطأً؛وأصله أن القاتل إذا قتل قتيلاً جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول،أي:شدها في عقلها ليسلمها إليهم ويقبضوها منه،فسميت الدية عقلاً بالمصدر.
و"العَقِيْلَةُ"من النساء:الكريمة النفيسة المخدرة المحبوسة في بيتها،قال امرئ القيس:
"عَقِيْلَةُ أترابٍ لها دميمةٌ ولا ذات خَلْقٍ إن تأمَّلْتَ جأنِبِ".
ثم استعمل بعد ذلك في الكريم من الذوات والمعاني،يقال منه:"عَقِيْلَة القوم"لسيدهم،و"عقائل الكلام":أنفسه،و"عقائل البحر":درره،و"عقائل الإنسان":كرائم ماله.
وسمي الفهم عقْلاً لأن ما فهم قد قُيِّد وضُبِطَ وأُمسِك بالعقل،يقال:"عَقَلَ الشئَ"إذا فهِمَه،فهو عَقُولٌ،و"عقل الشئ"إذا علمه،أو علم صفاته من حسن أو قبح،وكمال ونقصان؛فأمسكها،وأمكن أن يميز بين القبيح والحسن والخير والشر،ومنه قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-:"إن الله قد بعث محمداً-صلى الله عليه وسلم-بالحق،وأنزل عليه الكتاب،فكان مما أنزل عليه آيه الرجم،قرأناها ووعيناها وعقلناها"أي:فهمناها؛فضبطناها وأمسكناها.
وسمي العقل عقلاً لأنه يمنع صاحبه عن التورُّط في المهالك،ويحبسه عن ذميم القول والفعل.انظر:"لسان العرب"11/458-466،"مفردات القرآن"ص341للراغب،"الصحاح"4/1442-1445،"النهاية في غريب الحديث"3/278-282،"المجرد للغة الحديث"ص453لابن اللباد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"إن العقل مصدر "عَقَلَ يعقل عقلا" إذا ضبط و أمسك ما يعلمه،
وضبط المرأة وإمساكها لما تعلمه أضعف من ضبط الرجل وإمساكه،ومنه سمي العقال عقالاً لأنه يمسك البعير و يجره و يضبطه،وقد شبه النبي –صلى الله عليه وسلم-ضبط القلب للعلم بضبط العقال للبعير؛فقال في الحديث المتفق عليه:"استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها"،وقال :"مثل القرآن مثل الإبل المعقلة إن تعاهدها صاحبها أمسكها وإن أرسلها ذهبت"،و في الحديث الآخر:"أعقلها وأتوكل أو أرسلها؟ قال:"بل اعقلها وتوكل".
فالعقل و الإمساك و الضبط و الحفظ و نحو ذلك ضد الإرسال و الإطلاق و الإهمال و التسييب و نحو ذلك،وكلاهما يكون بالجسم الظاهر للجسم الظاهر،و يكون بالقلب الباطن للعلم الباطن"ا.هـ."بغية المرتاد"ص249-250.
-أسـماء العقل:
و للعقل أسماء مقاربة له:
منها:اللُّب:و"لب كل شئ"و"لُبابه":خالصه وخياره،ومنه:"لب النخل"وهو قلبها،ويطلق اللب على العقل،وجمعه"ألباب"و"ألْبُبٌ"،وجُمِع على"أَلُبّ"كما جُمع"بُؤس"على"أبؤس"،و"نُعْم"على"أنْعُم"،يقال:"لَبّ َ،يَلَبُّ"مثل"عَضَّ،يعَضُّ"،وهذه لغةالحجاز،و"لَبَّ،يَلِبُّ"مثل"فَرَّ،يَفِرُّ"،وهذه لغة أهل نجد،ويقال:"لَبِبَ الرجل-بالكسر-،يَلَبُّ-بالفتح"،وحُكِي"لَبُبَ"-بالضم-،وهونادرٌ،ولا نظير له في المضاعف.واللبيب:العاقل،وجمعه"أَلِـبَّـاءُ".انظر:"ل سان العرب"1/729-735،"الصحاح"1/191-193،"النهاية في غريب الحديث"4/222-223.
قال الراغب-رحمه الله-:"اللب:العقل الخالص من الشوائب،وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه،كـ"اللُّباب"،واللب من الشئ.وقيل:هو ما زكى من العقل؛فكل لُبٍّ عقل،وليس كل عقل لُبَّـاً؛ولهذا علق الله-تعالى- الأحكام التي لا يدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب نحو قوله:"ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً"إلى قوله:"أولوا الألباب،ونحو ذلك من الآيات"ا.هـ."المفردات في غريب القرآن"ص446،وانظر"الكليات"ص619.
ومنها:"الحِجَى":والحجى "مقصور:هو العقل والفطنة...،الجمع:أحجاءُ...،و"كلمةٌ مَحْجِيَّةٌ":مخالفة المعنى اللفظ،وهي"الأُحْجِيَّةُ"و"الأُحْجُوَّةُ"،و"قد حاجَيْتُهُ،محاجاة وحجاءً":فاطنته؛فـ"حجوتُه"،و"بينهما أُحْجِيَّةٌ يتحاجون بها"و"أُدْعيةٌ"في معناها"."لسان العرب"14/165،وانظر"النهاية في غريب الحديث"1/349،"الصحاح"5/1843.
فالحجى العقل الكامل،انظر:"شرح النووي على صحيح مسلم"7/133،"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"4/347للقاري،"فتح الملهم"3/65.ومنه حديث قبيصة بن مخارق الهلالي-رضي الله عنه-قال:"تحملت حمالة فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسأله فيها؛فقال:"أقم حتى تأتينا الصدقة؛ فنأمر لك بها"،قال:"ثم قال:"يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة:رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك،ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش،-أو قال:سداداً من عيش-،و رجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجَا من قومه:"لقد أصابت فلانا فاقة"؛فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش-أو قال:سدادا من عيش-،فما سواهن من المسألة ياقبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتاً".
ومنها:الحجر:وهو بكسر الحاء و فتحها و ضمها،و الكسر أفصح:المنع و الحرام،يقال:"حَجَرَ عليه،يَحْجُر،حَجْرَاً،و حُجْرَاً،و حِجْراً،و حُجْرَانَاً،و حِجْراناً":منع منه،و منه قوله-تعالى-:"و قالوا هذه أنعام و حرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم"[الأنعام:138]،و قوله-تعالى-:"و يقولون حجراً محجوراً"[الفرقان:]،و قوله-تعالى-:"و هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات و هذا ملح أجاج و جعل بينهما برزخاً و حجراً محجوراً"[الفرقان:]،أي:حاجزاً حصيناً،و سميت الحجرة حجرةً لامتناع مافيها بها.انظر:"لسان العرب"4/165-172،"الصحاح"2/541-543.
و ورد تسمية العقل حجراً في قوله-تعالى-:"هل في ذلك قسم لذي حجر"[الفجر:]،قال ابن جرير-رحمه الله-:"و أما معنى قوله:"لذي حجر"فإنه لذي حجى وذي عقل،يقال للرجل إذا كان مالكاً نفسه،قاهراً لها،ضابطاً:"إنه لذو حجر"،و منه قولهم:"حجر الحاكم على فلان".
ثم ساق بسنده عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال:"لذي النهى والعقل"،و في لفظ:"لذي لُبٍّ،لذي حجى"،و عن مجاهد قال:"لذي عقل،لذي رأي"،و عن الحسن قال:"لذي حِلْمٍ"،و في لفظ:"لذي لُبٍّ"،و عن قتادة قال:"لذي حجى،لذي عقل و لب"."جامع البيان"15/174،و انظر:"الجامع لأحكام القرآن"10/43،"فتح القدير"5/434.
و قال أبو السعود-رحمه الله-:"و الحجر:العقل لأنه يحجر صاحبه،أي:يمنعه من التهافت في ما لا ينبغي"ا.هـ."إرشاد العقل السليم"5/867.
و قال الراغب-رحمه الله-:"قيل للعقل حِجْرٌ لكون الإنسان في منع منه مما تدعو إليه نفسه"ا.هـ."مفردات غريب القرآن"ص109،و انظر:"الكليات"ص620.
وللحديث بقية...