
الشعر ,, بين صدق الصورة ,, وصدق الذات
قد يفرق البعض بين العطاء الشعري وبين السلوك الشخصي، فليس بالضرورة أن يكون هناك تطابق بين محصلة العطاء الشعري ومحصلة السلوك الشخصي، قد يرتاد زائر متحفاً للوحات الفنية، وقد يشده بعضها شداً كبيراً، وقد يبهره بعضها، وما خطر بباله أن يعرف شيئاً عن سلوك الفنان الذي أبدع هذه اللوحة أو تلك، وقد تختلط الصورة أحياناً بالنسبة للشاعر العربي بين شاعريته وشخصيته ، أو مشاعرها، أو ما يجيش في خاطره، أو يفتعل في وجدانه، وأنها لابد أن تعبر عن حقيقة قيمه ومفاهيمه الذاتية.. وتصوره للآخر.
العطاء الشعري والممارسة
وقد تكون شخصية الشاعر متمثلة في قيمه ومفاهيمه وتعامله الحقيقي مع الآخر، وقد يرى البعض أن تلك مسألة طبيعية.. ويرى البعض الآخر.. أن الشاعر إن كانت ممارساته سلبية في واقعها.. فإن ذلك يلقي ظلالاً على مدى نصاعة عطائه الشعري، ويظل السؤال المحوري هو: هل من الضروري أن تكون محصلة العطاء الشعري ومحصلة الممارسة الذاتية متطابقة وإن اختلفتا فإن الشاعر غير أمين وغير صادق! وهل من الضروري الاحتكام إلى هذه المحصلة.. وهل من الضروري أن يكون الشاعر أميناً وصادقاً في سلوكه.. وإلا حكم على عطائه الشعري بالسقوط وإن كان قمة في الابداع؟
في كثير من الأحيان.. تتداخل مشاعر الشاعر أو خياله الشعري مع شخصيته، ومن الواضح أن الشاعر الذي يتحدث عن الصدق.. وهو في ممارسته غير صادق.. تسقط مصداقيته الشعرية، والشاعر الذي يصوغ أحلى القصائد عن الكادحين.. وهو من المترفين القابضين على مفاتح الثروة.. والذين يضطهدون الكادحين.. لابد أن تسقط الظلال القاتمة على الصور الشعرية الجميلة.. فتبدو قاتمة غير صادقة، ولكن الاحتكام بمثل هذه الصورة قد يسقط كثيراً من القصائد الجميلة الرائعة الصور والمعاني، فهل تقتضي العقلانية النظر إلى العطاء الشعري بمعزل عن شخصية الشاعر وممارساتها وهل ذلك ممكن فعلاً على صعيد الواقع؟
قد تجد قصيدة رائعة عن الشجاعة.. وليس من الضروري أن تسأل إن كان الشاعر شجاعاً حقاً.. ولكن قد تصدم إن عرفت أنه جبان وقد يلقي ذلك ظلالاً على روعة القصيدة عن الشجاعة التي صاغها من وحي خياله، وليس بالضروري من تجربته الذاتية. أليس الشعر أحد ركائزه المحورية.. الخيال.. ولماذا ينبهر كثيرون أحياناً بقصيدة غزلية ولم يسألوا إن كان الشاعر قد عاش تجربة حب حقيقية تجسدت في قصيدته الغزلية.. وحـتى لو تبين أنها من وحي خياله.. فإن ذلك لا يلغي كون القصيدة الغزلية رائعة.
إن الفكرة الراسخة والتي تبدو من المسلمات أن الشعر هو محصلة معاناة الشاعر.. وذلك يعني أنها تجسد تجربته الذاتية من خلال معاناته الذاتية وليس الأمر كذلك بالضرورة.. فقد يحس الشاعر بمعاناة الآخرين.. أو ربما يتخيل هذه المعاناة لدى الآخرين. وقد يصوغ شــاعر على شـــواطئ ترف أو بذخ نعمة.. قصيدة عن الفقراء الكادحين.. وإن بدا ذلك من الندرة بمكان. إنه قد يحاول تصور معاناة هؤلاء الفقراء الكادحين.. وهو ليس بفقير ولا بكادح فهل تكون القصيدة حتى لو كانت وفق المعايير الشعرية.. رائعة أو إبداعية.. قصيدة يحكم عليها بالإخفاق لأنها لا تصور تجربة الشاعر ومعاناته الذاتية
* أستاذ جامعي