
مؤتة.. درس في إدارة الأزمات
في جماد الأولى سنة ثمان من الهجرة بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جيشاً إلى مؤتة قوامه ثلاثة الآف
ومضى الجيش حتى بلغ معان ، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب في مائة ألف من الروم ومثلهم ممن تبعه من العرب ، وحين علم الصحابة بضخامة جيش العدو أقاموا ليلتين يتشاورون واقترح بعضهم الكتابة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأخذ رأيه أو طلب المدد ؛ فشجعهم ابن رواحة – رضي الله عنه – على القتال ، فأجمع الناس على رأيه ، وساروا حتى انحازوا إلى قرية مؤتة ، والتقى الجيشان هناك .
كانت المعركة ملحمة عظيمة من ملاحم الإسلام ، ظهرت فيها البطولات الفذة ، وتساقط قادة الجيش شهداء واحداً تلو الآخر – رضي الله عنهم – فغدا الجيش الإسلامي بلا قيادة ، فبادر ثابت بن أقرم أحد الأنصار يأخذ الراية ، وصاح بالمسلمين أن يصطلحوا على قائد منهم ، فاتفقوا على خالد بن الوليد سيف الله المسلول – رضي الله عنه – الذي غيّر إستراتيجية الجيش بعد استلام القيادة ، فانحاز بالجيش تلك الليلة إلى موقع قصي.
كان الجيش في موقع عصيب للغاية ، فهو محاط بأعداد ضخمة لا قبل له بها ، وقد فقد قياداته التي عينها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخاف خالد أن يبادر جيش المسلمين ، فقرر الانسحاب ؛ إلا أنه كان يعرف أن أصعب أوقات المعركة وأنكى القتل يكون عند الانسحاب ، فقام بعملية وصفت بأنها أنجح عملية انسحاب عسكري في التاريخ ؛ إذ لم يفقد جيش المسلمين سوى بضعة عشر رجلاً في المعركة كلها .
أجرى خالد تغييرات في تشكيلة الجيش المسلم ، فجعل مقدمته ساقته وميمنته ميسرته ، وعندما التقى الجيش بالروم من الغد رأوا وجوهاً جديدة فظنوا أن مدداً جاء للمسلمين في الليل ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، وهجم عليهم المسلمون هجوماً عنيفاً ، تتضح شدته من قول خالد بن الوليد : " لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية " فقُتل من الروم عدد كبير.
حانت حينئذٍ فرصة الانسحاب ، لأن جيش الروم فزع من شدة القتال ، ولا يدري لعل هناك مدداً ، أو أنه كمين يستدرج إليه ، ففرحوا بتراجع المسلمين ، وكان ذلك نصراً باهراً لجنود الله ؛ حيث قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في وصف المعركة للصحابة قبل عودة الجيش : " حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم "
وهكذا أراد خالد بن الوليد ببراعة أزمة عصيبة كادت تعصف بالجيش المسلم ، وحقق انتصاراً واضحاً بنجاة الجيش في معركة لا وجه فيها لتكافؤ القوي : عدداً ولا عدة