
كمايروي أحدهم عن ثقافتنا بين معترك ثقافات مقال طويل للمهتمين فقط
نتكلم احيانا عن الثقافة وعن الغزو الثقافي وخطورته وضرورة مواجهته ونتحدث عن مصادر ثقافتنا التي ينبغي أن نلوذ بها وأن نعلي من شأنها وأن نبرز عناصرها في وجه الثقافات الوافدة التي تنهمر نحونا من كل جانب وصوب من خلال شتى الوسائل..
ترى ماهو هذا الغزو الثقافي الذي يواجه ثقافتنا وهل يمكن أن تكون الثقافة غزواً؟ الثقافة دائماً نعرفها فكراً وحضارة ومدنية فكيف تكون غزواً والغزو ضد التعاون والتحضر بل هو الهمجية والتأخر الغزو سفك للدماء وإزهاق للأرواح وتدمير للحياة والثقافة حياة بذاتها تعمر الأرواح وتشيد البناء وترتقي بالنفوس وتهذب الطبائع.الغزو هدم والثقافة بناء فكيف يلتقيان بل كيف تصبح الثقافة ذاتها غزواً؟ لعل هذا المصطلح من المصطلحات الخاطئة التي تشيع كثيراً في الألسن ويجري تداولها كما لو كانت حقيقة الحقائق وكثيرة هي تلك المصطلحات التي أصبحنا نرددها كل حين دون انتباه وتفطن لعدم صحتها أو دقة عبارتها إذاً فمصطلح الغزو الثقافي عبارة غير دقيقة في التعبير عن المعنى الذي استهدفه وطالما الأمر كذلك فهل ثقافتنا آمنة من الأخطار ولاخشية عليها من شيء يؤديها أويؤثر عليها او يخلخل قيمها؟ أظن أن الجواب بالسلب هنا أقرب الى الدقة من الجواب بالإيجاب ذلك أن ثقافتنا تتعرض بالفعل لمؤثرات كثيرة متعددة متباينة الأصول والاتجاهات ومن غير شك يجب النظر بعيون يقظة تجاه تلك المؤثرات الزاحفة من قارات الدنيا ماهو العمل الذي علينا القيام به لوقاية ثقافتنا مما قد يحيط بها من أخطار؟ وماهي الكيفية التي يجب الأخذ بها؟ وماهي قدراتنا وإمكانياتنا لذلك الفعل الذي ينبغي اتخاذه إن كان من الضروري أن يتخذ؟
التساؤلات كثيرة والجواب القاطع ليس سهلاً ولاممكناً بل إن هناك من لايرى أي خطر على الإطلاق ولعل التساؤلات لانهاية لها لو شئنا استقصاءها ومعرفة نهايتها بيد أن الأمر ليس شراً كله وإن كان ليس خيراً كله كذلك.وثقافتنا نحن ذاتها هل هي خير كلها مبرأة من كل العيوب سليمة من النقائص؟ لاأظن أحداً يقول بهذا إن فيها مانزعم أنه نقي تمام النقاء لاشبهة في ذلك وفيها السيىء وفيها الخليط المازج بين الجيد وضده وأحسب أن الثقافات الأخرى كذلك بنسب متقاربة أو متفاوتة والثقافات إن هي إلا موروثات الأقوام الدينية والعقائدية والفكرية والعلمية والاجتماعية ومكتسباتهم التي تضيفها تجارب الحياة على العصور وخبرات الأجيال التي تتراكم وتتزايد جيلاً بعد جيل.الدين والتاريخ والآداب والعادات والتقاليد والأعراف والاعتقادات والفولكلور وصور الحياة المختلفة القديمة والمتجددة كل هذه الأمور وغيرها هي التي تشكل الثقافة لأمة من الأمم ومع كل عصر وجيل تضاف إضافات جديدة وربما توارى شيء من القديم ليحل محله شيء من الجديد بفعل تطورات الحياة وحركتها والثقافات تحمل خصائص البيئة التي تنشأ فيها وتعكس حال الناس الذين انبعثت عنهم ولهذا كان لكل أمة من الأمم ثقافتها بل ثقافاتها لأن لكل إقليم أو مدينة أو قرية وأحياناً حتى لكل حي خصوصية ما وإن كانت يسيرة تمثل شيئاً من الثقافة الخاصة التي تصب فيما بعد في النهر الكبير.هكذا في الثقافة العربية تتراءى للناظر ثقافة واحدة وهي كذلك في عناصرها ومكوناتها من حيث الدين واللغة وكثير من الموروث المشترك مع خصوصيات قطرية وإقليمية لايمكن إغفالها هنا بادية وهنا بحر وهناك ريف وهناك جبل وهذه مدينة وتلك قرية هناك مؤثرات خارجية أخرى أوروبية أو غيرها وهنا أو هناك بحكم الجوار أو التواصل مع أمم أخرى حصلت تأثيرات متبادلة تركت أثرها في هذا الطرف أو ذاك.وهكذا هي الثقافة ليس جداراً مصمتاً ولكنها تفاعل الناس مع بعضهم في محيطهم الصغير أو فيما هو أبعد وأوسع مع الخصوصية الذاتية لكل أمة من الأمم فالهند لها ثقافتها وفارس لها ثقافتها الصين اليابان والملايو وأمريكا الجنوبية والأمم الأوروبية من المانيا الى فرنسا الى إنجلترا كل بثقافته وإن تقاربت في بعض الأشياء تظل مستقلة بعناصرها ومساراتها العامة والتأثير والتاثر مستمران منذ أقدم العصور هذه تاخذ من تلك وتلك ترد لها العطاء في دورة اخرى وفق الحالة التي كان عليها كل منهما ويأتي من الاحتكاك والاتصال أو من المجاورة أو من خلال العقيدة الواحدة ومع ذلك ظلت الثقافات مستقلة كل واحدة بذاتها حتى وإن تداخلت التأثيرات بينها ولعل اللغات هي الوعاء المهم الذي حفظ للأمم جوهر ثقافاتها وأحاطها بسياج قوي منع عنها التخلخل والذوبان وأكد عنصر توحدها وائتلافها وروح انسجامها ولكن هذا كان في عصور خلت حيث لم تكن للناس والحياة هذه المتغيرات المذهلة التي أحدثها العلم في عصرنا مالم نكن نحن نعرفه عن أقرب قرية من قريتنا الأقمار الصناعية والكمبيوتر غدت قوة رهيبة عاتية بحد ذاتها لمن يستطيع تسخير استخدامها والإفادة منها وتوجيهها لصالحه وبما أننا لسنا من صناع الكمبيوتر ولا من أهل برمجته وبيننا وبين الأقمار الصناعية مسافة واسعة ليست أقل من المسافة بين الفضاء الذي تدور فيه هذه الأقمار وبين الأرض التي نجلس عليها,فإننا بالتأكيد سنكون الأكثر خسراناً في عملية التبادل الثقافي إن كان ثمة تبادل ولاأعتقد فالذي يعطي هو الذي لديه مايعطيه والوسيلة التي ينتقل بها عطاؤه ولسنا فيما اعتقد ممن يستطيع العطاء بل وللأسف ليس باستطاعتنا حتى أن نرفض مايعطى لنا كالعطشان يشرب الماء وإن امتلأ بالطين والتراب كيف لنا بالرفض ونحن الذين نحيا عالة على مايصنعه الآخرون وكدت أقول على مايقررونه أيضاً؟ إن الذي يصنع المصانع والذي يصنع ماتنتجه المصانع من الدقيق الى الجليل هو غيرنا ونحن قصارى جهدنا أن نستطيع استخدام تلك المنتجات والمخترعات ولعلنا لانستطيع استخدام بعضها الأكثر تطوراً إلا بعد التعلم والتدريب في مواطن صنع هذه المنتجات والذي يصنع الصناعات ويبعث بها الى سوقنا لنستخدمها ولاخيار لنا في ذلك هو نفسه الذي يصنع الأفكار والفلسفات ويصوغ قوالبها فهل ترانا على ضعفنا نستطيع التصدي ذلك والتيارات تهب علينا من كل جنب؟ إن إغلاق الأبواب غير ممكن ومستحيل في عصر محطات الفضاء وأجهزة الإلكترون والمنافسة اليوم في المقام الأول ليست بالضرورة منافسة عسكرية ولكنها منافسة في امتلاك ناصية التقدم وأسرار المعرفة..والثقافة وهي أساس المعرفة وقوامها تبدو صلابتها بقدر ماتستطيع من إظهار مكانتها بين ثقافات الأمم في عصر الكمبيوتر والمعلومات معيار قوتها يظهر في مقدار التوازن بين ماتأخذ وماتعطي مع غيرها من الثقافات.إن ثقافتنا أصيلة وعريقة من غير شك وفيها من الجوانب الروحية والفكرية مايمكن أن يغني البشرية ويضيف الى رصيدها المهم ولكنها ثقافة بعيدة عن التأثير أضعفها المرض الشديد الذي حل بالأمة فغدت كأنها شبح لاروح فيه ضعيفة لاتستطيع أن تقدم شيئاً بل لاتستطيع حتى الرفض لما لايناسبها جسد عليل تتناهشه الميكروبات ولا يقدر على دفعها.إن التيارات الثقافية التي تتوافد من ناحية العالم الغربي موطن الحضارة الصناعية الحديثة ومهدها الأول,ليست موجهة إلينا وحدنا بل هي تيارات طارت مع الأثير عبر الأقمار الفضائية في الأغاني والرقصات وأفلام السينما والمسرح ومذاهب الفن المختلفة وفي الدعاية والإعلان بل وحتى في الهئيات وأنواع الملابس وقصات الشعر ناهيك عن المدارس الثقافية والمناهج الفكرية والمذاهب العديدة المختلفة ومنها الغريب والعجيب خرجت من عواصمها التي تصنع الموضة كما تصنع السيارات وأدوات المنازل تدق أبواب بلاد العالم كله غير مستثنية أحداً بذاته.
أقول هذا لأن الكثير من الناس في بلادنا العربية يراها مؤامرة مدبرة حيكت بليل ضدنا نحن العرب وحدنا خاصة وليس الأمر كذلك أبداً فهي كما طرقت بابنا طرقت كذلك أبواب الصين واليابان وأمم الأرض كلها تحملها وسائلها الحديثة في غير إبطاء لحظة اختراعها أو ظهورها في هوليوود أو غيرها من المواطن التي تنتج هذه المفاهيم والأفكار تساندها وتعاضدها القوة السياسية التي تدعو الى فتح السموات والأرض لهذه الأفكار الطائرة لتستقر في أي مكان يروق لها وتستطيبه بغير قيود تحت شعار الحرية المطلقة التي نرى تقنيناً لها فيما سمي باتفاق (الجات) وملاحقه وإذا كان من الصحيح ان هذه الأشياء العابرة قد حطت في أرضنا كما حطت في أرض غيرنا سواء بسواء فإن من الصحيح أيضاً أن غيرنا قد استقبلها بغير ما استقبلناها فقد كانت له من الإمكانيات والوسائل ماجعلته يستطيع التقليل من حجم مضارها وتحجيم تأثيرها أما عندنا في أمتنا العربية فلم نستطع فعل شيء لمواجهة هذا التيار القادم سيئاً كان أو جيداً سوى تصريحات المسؤولين والاتكال على وعي المواطنين وصلابة عقيدتهم وقوة ثقافتنا الوطنية العريقة التي ماعهد بها وهن وأما البلاد الأخرى المتقدمة فكل بلد اخذ يبحث عن الوسائل المناسبة للتعامل مع هذه المخترعات الجديدة وخطورة بثها على ثقافته المحلية فقد سن بعضها تشريعات معينة مثل فرنسا واتخذ بعضها تدابير اخرى مثل اليابان والصين كل بحسب ظروفه ولاشك أن هذه الدول قد أصابت قدراً من النجاح في الأساليب الحديثة الملائمة التي انتهجتها لحماية خصائص ثقافتها القومية وموروثاتها الخاصة العريقة ولعل هذا القدر من النجاح يعزى في المقام الأول الى ماتمتلكه هذه الأمم الحية المتطورة وخاصة اليابان من الوسائل عالية التقنية والتطور وللتخطيط المحكم والتفكير العلمي المنظم وكذلك للتقدم الهائل الذي يبعث بذاته الطمأنينة والرضا في نفوس الأمة ويحصنها من الاختراق بما يشحنه فيها من الاعتزاز بإنجازاتها الصناعية والعلمية وماحققته على صعيد الواقع الذي تراه حياً أمامها والذي تراه مساوياً لما أنجزه ذلك الآخر إن لم يكن قد تفوق عليه في بعض المجالات وهذا المستوى من التقدم هو حصانة في حد ذاته للثقافة الوطنية فإن الأمة متى بلغت في التطور والتقدم المكانة العالية أصبح أناسها يشعرون بالندية والمساواة مع الأمم الأخرى ليس بالكلام الفارغ وإنما بحكم حقيقة الواقع الذي يعيشونه ويرونه بأعينهم ولهذا يكونون أقل عرضة لتأثير الأفكار الوافدة إليهم ناهيك بمايقدمونه هم أنفسهم لهذا الوافد في موجة مبادلة وأخذ ورد.ومع ذلك نرى امة مثل فرنسا تتحرك بقوة لحماية لغتها وثقافتها مما تراه يتهددها,حتى لقد سنت تشريعات بتحريم استخدام ألفاظ غير فرنسية في (الإعلانات والبيانات والمؤتمرات والإذاعة والتلفيزيون وعقود العمل) وقيل إن عقوبات كالسجن أو الغرامة ستكون من نصيب من يستخدم كلمة أجنبية لها مرادف فرنسي وقد قاد وزير الثقافة حملة شديدة لمواجهة انتشار الثقافة الأمريكية واللغة الإنجليزية في فرنسا سواء في السينما أو الأغاني أو ملصقات الإعلان وشدد وزير الإعلام بدوره على هذا الموضوع ووجه وسائل الإعلام بعدم الخروج عن هذه السياسة التي أقرها مجلس الوزراء واعتمدها مجلس النواب وحملات من هذا النوع ليست جديدة في فرنسا فهي مستمرة وتتجدد منذ الستينات وإن أخذت وضعاً أكثر حدة في الآونة الأخيرة.هذا في فرنسا وذاك في الصين واليابان فماذا لدينا نحن في بلادنا العربية ماهو القرار وماهي الوسائل التي ينبغي اتخاذها؟
إنني بالتأكيد لست ممن يقولون بنظرية الغزو الثقافي ولابأن نغلق على أنفسنا الأسوار ونختبىء وراءها,ولكني أدعو الى تلاقي الثقافات وأن يكون أخذنا من الآخرين مثل عطائنا وان نتخذ من التدابير مايجنبنا الوقوع في المأزق وان تكون لنا وسائلنا المناسبة لحماية ثقافتنا.فعندما تكون سمواتنا مفتوحة لكل قنوات البث في العالم – ويجب أن تكون مفتوحة – ينبغي في موازاتها ان تكون لنا خطتنا الثقافية ومناهجنا الفكرية التي نستطيع بها المنافسة منافسة المواد القادمة منافسة لانريدها في الآفاق البعيدة فذاك فوق طاقتنا ولكننا نكتفي بها في بلدنا وديارنا منافسة لانريدها في بلداننا وديارنا منافسة بيننا وبين الوافد هدفها عقول وأفكار مواطنينا وأهلنا فهل ترانا قادرون؟ إن المنع غير جائز وغير ممكن ولكن علينا أن نخطط لتكون لنا من أفكارنا وثقافتنا مايجعل مواطننا ينجذب بكل اهتمامه إلينا تاركاً بمحض إرادته ذلك القادم من بعيد لأنه وجد ماهو أفضل منه أو مثله لدينا وتلك هي المنافسة حقاً ولاأظن ذلك بالعسير إن تضافرت الجهود وتوافرت الهمم وأوكل الأمر الى من يستطيعه.وفي الوطن العربي الكثير من الخبرات وحملة الدرجات العلمية العليا ومن المفكرين المرموقين الذين تدرس أفكارهم ونظرياتهم وكتبهم في جامعات أمريكا والبلاد المتقدمة الأخرى وهم قادرون لو أفسح لهم المجال أن يبدأوا ولو بداية أولية تكون اللبنة الأولى في البناء المراد.
إن الثقافة من العناصر المهمة لأي أمة من الأمم ولهذا توليها الأمم جل عنايتها واهتمامها وترصد لها الموازنات الضخمة وتيسر لها كل السبل إدراكاً للدور الذي تنهض به في حياة المجتمعات والرقي الذي تحدثه في أوساط الناس فهي أمر لابد منه لتطوير المجتمع وازدهاره.
التعديل الأخير تم بواسطة حرقي العرين ; 14-06-2007 الساعة 03:26 AM
سبب آخر: ص