
التدويل الإعلامي لقضايانا المحلية.. لمصلحة من؟
التدويل الإعلامي لقضايانا المحلية.. لمصلحة من؟

أ.د. محمد بن سعود البشر
أستاذ الإعلام السياسي في جامعة الإمام محمد بن سعود
التدفق المعلوماتي ذو الاتجاه الواحد، والأضواء السياسية والإعلامية والعقدية المسلطة بكثافة على بلادنا وحكومتها ومؤسساتها وشعبها تفرض علينا واقعاً إعلامياً نتعامل معه بحكمة وفطنة، ومعالجة إعلامية تحفظ التوازن بين حق الرأي العام في معرفة ما يدور في مجتمعه -على كافة الصعد- وبين ما يمكن أن تحدثه هذه المعالجة الإعلامية من (فوضى) تنعكس آثارها المريرة علينا، إذا وظفت داخلياً أو خارجياً بما لا يخدم مصالحنا.
في المعالجة الإعلامية لبعض قضايانا المحلية نرى نوعاً من الفوضى الفكرية والمهنية، تسبب فيها بعض من ينتسب إلى مهنة الإعلام، إما بدعوى الإثارة الإعلامية، أو الشهرة الشخصية، أو الغباء المركب، أو الهوى المغرض، أو الغفلة، أو السذاجة، أو غير ذلك من بواعث قد تكون أهون أو أخطر، وهي بواعث -منفردة أو مجتمعة- فتحت علينا أبواباً من الشر نحن في غنى عنها، وكانت ذريعة للقدح السياسي أو الإعلامي لمجتمعنا وثقافته ومؤسساته.
نسوق لهذا الطرح شاهداً حياً عايشنا أحداثه في الأيام الماضية، وهو الحكم القضائي على الأطراف التي شاركت فيما عرف (إعلامياً) بسيناريو (فتاة القطيف).
لن أتحدث عن التفاصيل الشرعية ولا القانونية ولا القضائية لهذا الحدث، فليس هذا من شأني ولا هو من تخصصي، وإنما أتحدث عن ذلك كونه شاهداً يبسط الحديث عن موضوع هذه المقالة: (التدويل الإعلامي لقضايانا المحلية.. لمصلحة من؟). فقد أخذت هذه القضية أبعاداً سياسية وإعلامية وحقوقية على المستوى الدولي، وبخاصة في وسائل الإعلام الغربية، ووظفت بطرائق شتى، ليس منها ما يسر ولا تقر العين به، وسبب ذلك (الفوضى الإعلامية) ذات البواعث المختلفة، والتي فتحت ثغرات كبيرة نفذ منها كل متحامل على هذه البلاد وعلى منهجها ومؤسساتها، فنال منها ما استطاع ووجدها فرصة للذم والقدح في أخطر قضيتين: (المرأة) و(القضاء).
براهين هذه (الفوضى الإعلامية) ما يلي:
1- الحديث عن تفاصيل هذه القضية بعيداً عن معايير الموضوعية والمعلومة الصادقة المستقاة من مصادرها الأصلية، وهي مؤسسات القضاء الشرعي.
2- عدم إدراك حساسية الموضوع وارتباطه بقضايا شخصية لمواطنين في المجتمع.
3- الاستخدام الإعلامي السيئ للمفردات التي تضمنتها المعالجة الإعلامية، وأشهر الأخطاء في هذا: أن توصف القضية ب(فتاة القطيف)، وهو تشويه لسمعة الفتيات في جزء غال من بلادنا، فكان الإعلام كأديب -أو متطاول على الأدب- قد ألّف رواية عن (بنات طوكيو) أو (بنات نيويورك)!! ليعم الوصف بنات المدينة كلها.
4- توظيف المفاهيم الجميلة لتقبيح الثوابت الأصيلة: فقد كتب أحدهم عن الحكم القضائي في هذه المسألة يقول: (الحكم يتعارض مع الجهود التي تبذلها القيادة السياسية في إرساء صورة مشرقة للتسامح الإنساني وإرساء الحقوق..)، وهذا يعني صراحة أن الحكم الشرعي يتعارض مع مفاهيم التسامح وحقوق الإنسان، وفي ذلك توظيف بالغ المكر للنيل من المنهج الذي قامت عليه هذه البلاد، والذي نص عليه النظام الأساسي للحكم في غير موضع منه.
5- ومثله أيضاً قول أحد الكتّاب: (القضية وضعتنا في موقف محرج أمام العدالة..)، فأية عدالة يبتغيها هذا الكاتب إن لم تكن في شريعة الإسلام التي تحكم بها مؤسسة القضاء في بلادنا؟
6- مراعاة مشاعر الآخر الأجنبي على حساب شريعة البلاد ونظمها القضائية، وهي مشاعر لا يترتب عليها خير مطلقاً، بل شر محض. يقول أحد الكتاب معلقاً على تصريح أحد القضاة المعروفين في محكمة الرياض الكبرى عن هذا الحدث: (لا يمكن للآخرين -يقصد السياسيين الذين اجتمعوا في أنابوليس- أن يفهموا شيئاً تجاه تصريح بعض القضاة للصحف السعودية سوى أن هناك تزمتاً داخل أروقة القضاء السعودي)!!
7- أحدهم قال تعليقاً على الحكم القضائي: (إن الحكم في طور المراجعة، ولا نشك أن العدالة ستنتصر)، وفي هذا حكم على القضاء الشرعي بأنه قضاء ظالم، أو أنه قضاء غير مستقل، وفي كلتا الحالتين فهو تطاول على النص الشرعي (آيات تحكيم الشريعة في التنزيل العزيز)، أو تجاوز قانوني (مخالفة دستور الدولة الذي ينص على استقلال القضاء). ولو أخذ هذا بجريرته لاتضح له أن تصريحه جنوح يستوجب المساءلة، إن لم يكن المثول أمام القضاء.
ما سبق -وغيره كثير- من المعاني التي تضمنتها فوضى المعالجة الإعلامية للحدث جسّد ذرائع نفذ منها الأجنبي -عربي وغير عربي- لتغذية الحملة السياسية والإعلامية الظالمة ضد بلادنا.
ومن ذلك:
1- أنها استخدمت ذريعة لكل جاهل أو مغرض للحديث عن قضايانا المحلية برؤيته هو، استناداً إلى ما قاله بعض إعلامنا، وأخص بذلك القنوات الفضائية العربية التي دوّلت القضية لحاجة في نفس القائمين عليها أو العاملين بها.
2- هذه القنوات الفضائية التي كانت تختلق القضايا، وتضخم الأمور لتخدم أهدافها، وتتحين الفرص للحديث الجارح عن السعودية؛ وجدت في تفاصيل هذا الحدث بغيتها، واستضافت بعض السذج والمغفلين، أو من هم أعلى رتبة منهم، للحديث عن قضايانا المحلية في وسائل إعلام غير سعودية، فكنا كمن يشتكي أخاه إلى جاره.
3- الأبعاد الحقوقية التي أفرزتها فوضى المعالجة الإعلامية لقضايانا المحلية فتحت آفاقاً جديدة للنقد غير الموضوعي للقضاء الشرعي في السعودية. بل تجرأ بعضهم وطالب بإعادة صياغة منظومة القضاء وفق القوانين الدولية حتى لا نكون نشازاً بين الأمم. وأترك الحكم على هذا القول لأهل الفتوى.
4- التصريح للقنوات الغربية حول قضية محلية تنظر داخل بلادنا ووفق قوانين القضاء فيها وسّع دائرة الضرر، وجرّأ منظمات حقوق الإنسان الدولية ووسائل الإعلام الغربية وغيرها لتصعيد الحملة ضد المملكة وثقافتها ومنهجها، بل استخدم ورقة سياسية انتخابية كما فعلت هيلاري كلينتون التي تقدم نفسها الآن مرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة الأمريكية، وكما فعل السيناتور باراك أوباما المنافس الرئيس لها على بطاقة ترشيح الحزب الديموقراطي لانتخابات الرئاسة.
تلك بعض الآثار المنظورة، ولو تتبعنا غيرها لوجدناها أشد على ديننا وأنكى على بلادنا، وحصيلته تفرض علينا إعادة النظر في واقع الفوضى الإعلامية التي يعيشها أو يفتعلها بعض من هو محسوب علينا، وهو مطلب ناجز وملحّ، ينبغي أن يتجسد في صياغة ميثاق شرف إعلامي وطني، يستمد روحه ومضمونه من منهج الدولة وسياستها الإعلامية حتى لا تختل الموازين ويتسع الخرق على الواقع، وحتى يعكس إعلامنا منهجا نعيش من أجله، وهوية وطن نقاتل دونه.
&&&&&&&&&&&&&&&&
رابط المقال
http://www.al-jazirah.com.sa/2007jaz/dec/5/ar3.htm
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة نسناس ; 06-12-2007 الساعة 06:53 PM