يعم الهدوء جنبات المدينة ، وتتعطل حركة السير الدورية ، لا أجد في الشارع تاجراً يبيع ولا مشترياً يقتني ما يريد ، وأمر في الزقاق ، ولايبدو لي أحد ، وأظن أن مكروهاً ما حدث للمدينة.. وأتوجس خيفة على أهلي ، وتظن بي الظنون ، ويشرد بي الخيال في كل مصائب الدنيا لينزلها منزلة تلك السكينة التي اكتسحت الطرقات والأزقة ، وغطت بهيبتها جلال الضوضاء التي ما زالت ترن في أذني كلما دخلت المدينة بالغدو.. أو العشي.. وها أنذا أدخلها اليوم بعد أمة ، وفي.. عز الصباح ولا أرى أحداً يتحرك.
لاشيء هنا يذكر على الإطلاق
توسوس لي نفسي : كل شيء انتهى ، ثم تعود فتتملى الدكاكين المفتوحة ، والسلع.. المعروضة والسيارات المصفوفة ، فتردد : لا.. لا ، لم ينه الأمر ثم تردف حائرة.. لكن :لم الصمت المرعب؟ ما هذا السكون المزعج؟ ما الذي ألم بالمدينة؟ أين سكانها؟
من يجيبني؟
من يكشف عن قلق أسئلتي؟
من يكف عني هطل الأسئلة المحيرة؟
من.. ؟..؟
آه يكاد رأسي يتفجر .. تساؤلات واستفهامات ، لو أن هنالك أحداً ما لأسئله ، فيفتح لي سر هذه المدينة ، وماذا حل بها بعدي؟
آه.. ليتني أجد من أناجيه.. لكن.. لا أحد هنا في الطريق ، ولا هنالك تحت الأشجار والدور..
لا أحد.. لا أحد..
طأطأت رأسي منحنياً ومستسلماً.. سرت خطوتين إلى الأمام فإذا بصراخ قوي وحاد ، كالصاعقة يفاجئُني ، حتى هممت بالفرار لولا أن رأيت جموعاً من الناس : شباباً وشيباً، تنحدر جميعها من مقهى صغير ضيق ، تهتف وتصفق مرددة بصوت واحد.
هيهو مبروك علينا.. الكأس هذه البداية ومازالت هذه حالتهم!!
تعالت الأصوات واختلط بعضها ببعض.. ابتعدت قليلاً عن الزحام خشية أن أختنق..
أدرت رأسي جهة المقهى ، أصوب نظراتي نحو النادل ، يجمع قنينات المشروبات الموضوعة هنا وهناك ، ويتأفف من لملمة الزجاج المتكسر تحت الطاولات وبقايا علب الدخان المترامية في جنبات المقهى كأنها قذائف مسعورة..