بسم الله الرحمن الرحيم
حين اختلط العرب مع غيرهم من الأعاجم ، وحين اتسعت الفتوح ظهر اللحن فألفه البعض واستلطفه الشعراء من الجواري والغلمان وأدرجوه في شعرهم وتسربت الكلمات الأجنبية وتفشت صيغ غير عربية وتراكيب غير نحوية وأساليب غير فصيحة الأمر الذي أرهب حماة العربية وحملهم على الوقوف في وجه هذا الطوفان واستمر الصراع على أشده بين العامية والفصيح ، صراع استعمال لا صراع جدل حول المشروعية كما هو عندنا اليوم ، إذا الناس مجمعون على خطورة الفساد اللغوي ولم نعهد لأحد من علمائنا الأوائل موقفاً مناصراً للحن والعامية وكانت الغلبة لعامية غلبة استعمال لا غلبة درس ولا تأييد كما هو عندنا اليوم..!! ، وعبر العصور الإسلامية كانت العامية تستعمل في المحادثة الشفاهية وفي بعض الكتابات التي لا يعرف مؤلفوها وبخاصة في السير الشعبية كألف ليلة وليلة والزير سالم... وما شابهها ولكن أحد من العلماء أو الأدباء لم ينهض للدفاع عن العامية أو الدعوة إليها أو الاشتغال بها ولم تعقد لها الدروس ولا الدراسات ولا المسابقات بالمبالغ وبمسميات..الخ ،ومن الحركات المشبوهة منح هذه المؤلفات الشعبية مشروعية المرجعية والانطلاق منها في الدراسات واستحضارها كمصدر من مصادر الثقافة وبخاصة عند الحداثيين وما هي بشيء لا في لغتها ولا في أفكارها ولا في مصداقية موضوعاتها.
وما كان أحد من علمائنا الجادين من يأبه بتلك المؤلفات الشعبية.
وما كان منهم من يفرط برقته في قراءة مثل هذه الحكايات الخرافية والأساطير وما كان منهم من يحفل بالعامية فضلاً عن تفعيلها.
أما اليوم فإننا نسمع ونشاهد من يجند نفسه للدفاع عن العامية.
وإثارة النعرات والمطالبة بتدريسها وتدريس الإبداع فيها ودراسته واستخدام آليات النحو والصرف والبلاغة والعروض لتفكيك هذه النصوص ووضع اعتبار لهذه المؤلفات الشعبية وما فيها من حكايات خرافية ، وحجة أولئك أن الغرب اهتم بهذه الظواهر وجند لدراستها المستشرقين والعلماء وجهزت لها المعامل الصوتية وأنشئت لها مراكز المعلومات وطاف المستشرقون في البوادي والقرى يخالطون الأعراب والعامة ويسجلون لهجاتهم ومستويات أصواتهم وتحولات الدلالة عندهم وتعدد الصيغ ثم يمضون إلى بدهم ومعاملهم لتحليلها وإصدار النتائج عبر مؤلفات تطير في الأفاق
وإذ يفعل الغرب ذلك في لهجاتنا وعاداتنا وتراثنا الإقليمي المعاصر وتاريخنا الإقليمي الحديث فانا أحق بهذا المجد منهم ، والمبهورون بهذا الاهتمام يقولون : نحن أولى من أولئك بالدرس والتحليل والرصد ، وفاتهم أن عناية الآخر بظواهرنا ليس متبطاً بأهميتها الذاتية وعائدها الإيجابي ، وإنما حاجتهم العلمية والاستعمارية وهيمنتهم وتحفزهم إلى معرفة العادات والتقاليد واللهجات وأدق الأشياء القائمة لكي نكون تحت مجاهرهم بكل تفاصيلنا ، وهذه الممارسة جزء من علم ( الانثروبلوجيا ) الذي أنشأه الأمريكان واستخدمه البريطانيون كمداخل للاستعمار أو ربما جاء فعلهم هذا لحرصهم على عزلنا عن لغتنا وتراثنا المجيد وشغلنا بتراثنا الإقليمي ولهجاتنا المحلية لتشتيت اهتماماتنا وخلق بؤر توتر تديم تناحرنا.
والمستعمر الماكر يرى أننا أبناء حاضرنا أما نحن فنرى أننا أبناء تاريخنا ، ولهذا جد في فهمنا على ما نحن عليه من عامية وجهل وبُعد عن مقتضيات الإسلام.
وإننا أمة لها حضارة ولها تاريخ ومن مصلحتهم أن يعرفوا مكامن القوة وظواهر الضعف فينا وإذ نتفق جميعاً على أن العامية من ظواهر الضعف فينا وإذا نتفق جميعاً على أن العامية من ظواهر الضعف والتفكك فمن الخير لنا أن نحاصر هذه الظواهر وألا نسعى لإشاعتها وتكريسها والتخطي بها من المشافهة والعامة إلى التدوين والنخب وألا يكون الغرب قبلتنا فيما نأتي ونذر ونحج إليه ونحتج به ، وكأن الله لم يخلق لنا عقولاً تفكر ولا أيدي تعمل لننظر إلى مكر الاستعمار..
ألم يجتهد في إقناعنا بأهمية العامية؟
ألم ينهض بالدعوة إليها؟
ألم يؤلف لنا من خلالها؟
ثم أليس هذا الشعر الذي ملأ صحفنا واذاعاتنا ومؤسساتنا يقال بالعامية أن العامية لا تكون سيارة نركبها ولا منزلاً نسكن فيه ولا مالاً ندخره إنها كلمات وتراكيب تستعملها.
والشعر العامي لون من ألوان الاستعمال العامي ومن ثم فهو جزء من الدعوة إليها.
إنها دعاوى وهمية لا تثبت للتجريب ولا تصمد للامتحان ولا تستهوي إلا السذج والمتعالمين الذين يبحثون عن مفحص قطاة في دوائر الأضواء . وجناية الاكادميين الذين يتملقون العامة ويرضونهم بمخالفة الحق أشد نكاية وبخاصة حين يكون لمثل هؤلاء صوت مسموع وحضور إعلامي.