
التناقضات والفشل في العلمانية العربية
بسم الله الرحمن الرحيم
أكتب لكم إخوتي من ناحية تاريخية فأقول يمكن أن نرصد "أصول العلمانية العربية" من خلال متابعة السجالات الفكرية
التي ميزت أوائل حركة الاتصال الفكري العربي-الغربي.
فنرصد مساهمات " الإسلاميين الحداثيين " الأوائل مثل رفاعة الطهطاوي.......... وجمال الدين الإفغاني.......... ومحمد
عبده.......... ومحاولاتهم الاقتباس عن الغرب مع الحفاظ على الهوية والحضارة الإسلامية............ وكذا محاولات "
المسيحيين الحداثيين " الأوائل مثل شبلي شميل....... وفرح أنطون........ وجورجي زيدان........... وسلامه موسى.........
وغيرهم من الذي دعوا إلى تقديم أفكار مثل حب الوطن والمواطنين على العلاقات التقليدية والدين............
ثم مع الجيل الثاني من " الحداثيين " من أمثال أحمد لطفي السيد........... وقاسم أمين.......... اللذين كانا من تلامذة محمد
عبده........ اللذين يمكن أن نلاحظ تأثرهما بطروحات الحداثثين المسيحيين................ خاصة لجهة النظر إلى الإسلام نفس
النظرة التي نظرت من خلالها أوروبا إلى المسيحية.............. وبالتالي الدعوة إلى فصله عن الحياة العامة..........
أما اليوم فيبدو أن تيار العلمنة في البلدان الإسلامية وخاصة العربية............ قد فشل وهو في انحسار مستمر لصالح
تيار الفكر الإسلامي........... ليس فقط على مستوى الغالبية العامة عند الناس في المنطقة........... بل وأيضا على مستوى
النخب...........
والحقيقة أن النخب العلمانية الحاكمة في أكثر من بلد لم تستطع استيعاب هذا التراجع أو القبول به........ خاصة وأن
التقدم البديل التعويضي كان يحصل في جانب الحركات الإسلامية واتساع شعبيتها........
فنحن إذا تتبعنا بشيء من التفصيل أمثلة الجزائر وتركيا وتونس............ سنلحظ بروز ما يمكن تسميته ب " العلمانية
الأصولية " في هذه البلدان...........
وخطر هذه " الأصولية " الجديدة يكمن في النظر إلى العلمانية على أنها ليست خيارا من الخيارات بل " الخيار ".......
وأنها السبيل الأوحد الذي يجب أن تنهجه المجتمعات........... أو تحولت كما يصفها عزام تميمي إلى " دين جديد ".......
والمشكلة الكبيرة هنا هي أن النخب العلمانية الحاكمة لا تريد أن تعترف بالتغيرات الاجتماعية والفكرية والسياسية
الجذرية التي حدثت ولا تزال تحدث في بلدانها حيث بروز تيارات شعبية غير علمانية وتحديدا إسلامية.......... ولا ترى
وسيلة للتعامل مع هذه التغيرات إلا قطع الطريق عليها وقمعها كما حدث في البلدان المذكورة.
والمفارقة الغريبة هي أن العلمانية في منطقتنا صارت متلازمة مع الدكتاتورية رغم أنها تزعم الحرية والانفتاح
والديمقراطية الليبرالية.
ويمكن أن نضرب أمثلة كلاسيكية على ذلك بتحالف الجيش وأجهزة الأمن مع النخب العلمانية الحاكمة لإحباط التحولات
الديمقرطية....... سواء فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر........... أو فوز حزب الرفاه في أكثرية المقاعد البرلمانية
في تركيا............ وتسلم أربكان للوزارة........... أو فوز حركة النهضة التونسية بعدد كبير من المقاعد في الانتخابات
التونسية التي سبقت حل الحركة وإعلان الحرب عليها........
ومن زاوية نظرية وتأصيلية فكرية متعمقة في العلمانية نفسها كفكرة فيمكن أن نطرح تساؤلا نراه مثيرا لاستفزاز
العلمانيين وهو: هل تحول العلمانية دون حرية التفكير في الديمقراطية نفسها.......... أم أنها تحولت إلى دوغمائية
سياسية.؟!!
فنحن إذا عدنا إلى أهم طروحات أبرز المدافعين عن العلمانية في الوقت الراهن ودعوتهم المعتدلة إلى " خصخصة الدين
وليس التهوين من شأنه " كما يقول ريتشارد رورتي.......... فإننا سنرى أن العلمانية تحمل تناقضات داخلية لا يمكن
القفز عنها......... رغم أنها تناقضات لا تصل إلى حد إسقاط العلمانية من الداخل.
التناقض الأول: هو دعوتها إلى حرية العبادة وحرية الاجتماع الديني............. الذي يقود في نهاية المطاف........... كما
هو الحال الراهن.......... إلى زيادة رقعة الدين............ والدعوات الدينية للتدخل في الشأن العام والسياسة باعتبار أن
للدين دورا مهما يمكن أن يؤديه في السياسة.
ففي الوقت الذي لا تستطيع فيه العلمانية إلا أن تعترف وتسمح بحرية الأديان والممارسة الدينية............ فإنها تعترف
بتناقض داخلي يعمل على تقويضها............... وهي لا تستطيع أن تقف في وجهه لأنها تفقد صفتها الليبرالية
الأساسية.........
أما التناقض الثاني: فيتمثل في ترافق "عدم اليقين الوجودي" مع العلمانية ليحل محل اليقين الديني عند الأفراد...........
وهذا لا يشبع التطلعات الإنسانية والروحية عند الناس خاصة في عالم مليء بالضغوط والتوترات حيث يحاول الأفراد
الوصول إلى سبل السكينة والطمأنينة الخلاصية على المستوى الداخلي لهم.......... وحيث تبرز أهمية " التضامن
الديني"......
وتناقض داخلي آخر هو تقارب العلمانية مع الدكتاتورية تحت مسميات عديدة........... ونضرب مثلا على ذلك تركيا وإلى
حد ما فرنسا........... ففي الأولى تتحالف العلمانية مع الدكتاتورية العسكرية تحت مسميات حماية الدستور العلماني من
تصاعد المد الإسلامي............. وفي الثانية تتحالف العلمانية مع ممارسات دكتاتورية مثل منع الحجاب أو التضييق على
المسلمين تحت مسمى الاندماج أو حماية التعددية الثقافية..............
إن هناك ضرورة تاريخية تكمن في نزع القداسة عن العلمانية.............. ونقض الادعاء السائد بأنها موئل الحقيقة
والعلم......... وذلك بموضعة هذه الفكرة والنظر إلى تبشيراتها " العلمانية " كنتاج للتطور والصيرورة التاريخية
الغربية........... ثم عزل هذا النتاج عن التطبيق القسري على المجتمعات والصيرورات التاريخية لبقية مناطق العالم..........
بتعبير آخر يجب ألا ننظر إلى العلمانية " كنظرية كبرى " قادرة على تفسير الظواهر............. أو جاهزة للتطبيق في
كل مكان وزمان.......... كما أنه من غير العملي أن يتم حبس النقاش وكأنه صراع بين قيم الإسلام الإيمانية ومنطلقات
الحداثة العقلانية............. أو بين رغبة الإسلام للتمكن والنظام العالمي المتمكن............ بل بين الإيمان الذي يجسد ما هو
متجاوز والافتراض العلماني الثيوقراطي بأن الحقيقة التامة قد تم الوصول إليها..........
وفي هذا الإطار يطرح الدكتور عبد الوهاب المسيري مجموعة مفاهيم جديدة............ ففي مقابل التعريف المشهور
للعلمانية بأنها " فصل الدين عن الدولة " يدعو إلى تعريف جديد يصف جوهر النظرة العلمانية إلى العالم عبر التفريق بين
العلمانية الجزئية ( تقابلية الدين والدولة )........... والعلمانية الشاملة التي تعني فهم العالم والاجتماع الإنساني وفق
نظرة علمانية صارمة وشاملة لجميع جوانب حياتهم.............. وليس فقط الجانب السياسي المعني بالدولة كجهاز
حكم. .......
ويرى المسيري أن هذا التعريف أدق وأكثر عملية في فهم " الصيرورة العلمانية " وفي فهمها كمتتالية وليس فقط
كشيء جزئي متسامح مع بقية منظومات الأفكار والمؤسسات الاجتماعية الإنسانية.............
فالعلمانية.............. بكونها منهج حياة شاملا............ لا تقبل بأقل من السيطرة الكاملة على مناحي الحياة الإنسانية,
وهذا يعني تكريس النظرة المادية ليس للأشياء فحسب.............. بل وللجوانب الإنسانية في حياة البشر أيضا............. أو
ما يسميه المسيري في كتاباته " حوسلة الحياة " أي تحويل كل الأمور وسائل مادية.............
ومن هنا يأتي التناقض مع قيم الإيمان والإحسان الإسلامية........... ومن هنا يأتي الفشل لمشاريع العلمنة في العالم
الإسلامي.............