![]() |
ذبـيـحـة الشقـرديـــة
لم تكد شمس أصيل ذلك اليوم تكهف إلى المغيب حتى غشتهما الفرحة فاسفهلتا رغم انكدار بهجتها بمسحة حزن وأدها في ذروة نشوتها . لقد كان يوماً غير عادي فقد دام غيابها سبعة أعوام انقطع السلام خلالها وابتعدت الأنفس وقل الوصال . لقد كان عزاؤهما الوحيد أن عكفتا على غزل شعر المعزى وإنتاج حصاوي(كرات شعر مغزولة)تمهيداً لاستبدال بعض الأقسام المتقطعة من بيت الشعر. كان بيت الشعر مبنياً داخل كربة(شعيب منحن يخفي ساكنيه)كالعنكبوت متشبثاً بأطنابه فوق جبانة(ارض مرتفعة لايصلها السيل عزاز"قوية" نوعاً ما), فيما كانت زريبة الغنم غصينات مقطوعة ومحشورة بين شجيرات سمر ملتفة أمام مقدمة البيت لتسهل مراقبة سرحان حينما ينقض على فرقة الغنم . أما كرس البهم(حفرة في الأرض كالتنور)يوضع فيها صغار الغنم في الشتاء خاصة فمحفور بين زريبة الغنم والبيت ليوفر حماية له من زمهرير الشتاء ويسهل نقله عند الرضاعه. كانت تدندن وتندق(تنحني)لتلتقط قصفة(عويدات يابسة من قشور الحطب أو الحمض)لتشعل الضوء في مقدمة بيت الشعر فقد مالت شمس للمغيب ، وتعالى ثغاء الغنم هادفة إلى البيت فيما بدأ صغار البهم يتراقص كعادته فوق البيت فأخذت تصيح بأبنتها أن أطردي البهم من على البيت فهبت الصغيرة إليه وطفق البهم يتقافز واحداً تلو الآخر كحبات برد إذ أشغلهما النظر(الحندار)إلى قعود قادماً إليهما. فعند غروب شمس ذلك اليوم سمعت النفيل رزمة قعود(حنين بمغمغمة وهدرة) ، فشهقت فرحة كادت أن تخرج نفسها وجاءت مسرعة إلى أمها :"يمه ,, يمه وش أبشرك به"..خالتي جات ،،خالتي جات"..فرثعت(ركضت)أمها ، أخت محمد، ورمت ما في يدها من قصفة وطفقت تستشعي(تحجب بيدها أشعة الشمس)لتكشف شخصية الخطار .لقد كانت خالة النفيل رديفة لزوجها ولما اقتربا هبت الصغيرة وأمسكت بعضد القعود: :"إخ إخ إخ"فبرك القعود أخت محمد:"أرحبوا،، أرحبوا" عبدالله:"المرحب باقي،، سلام عليكم ، كيف الحال..." نوره :"سلام عليكم ! آه يا حي ذا الشوف ياه من أختي ، وش لونكم ، عساكم طيبين" أخت محمد:"أقلطوا،، أقلطوا" اقتادت النفيل وأعطتها القصفة وهمست في أذنها أن أشعلي النار في طرف البيت. التفت عبدالله إلى أخت محمد وصاح :"امنعونا من الكلايف ، خلوها مرة ثانية لين نجينكم كلنا " أخت محمد:" أخت أخوي!!تعيون من كرامتكم!!كم لنا سنة ما شفناكم؟ قد لكم سبع سنين "،"والله إن قد تموت كرامتكم ذا الليل ..ووالله لو تحلفون منيا لين مكة".أوووو عبدالله ! تعال..تعال يارجال اذبح التيس عشونا؟لم يكترث بطلبها وقلط في المجلس . أما الصغيرة فرجدت أعواد السمر فوق بعضها ثم شعمت الضوء وأخذت دهرة الضوء"اللهب" تلاعب أهداب البيت أما أمها فتفكر مانوع الذبيحة التي ستقدمها للضيفين .وبعد برهة كان الاختيار على التيس العجي . كان التيس العجي(الميتة أمه) مطاعمي(يطعمونه الحشف وعجم التمر وبقية الأكل)يحوم حول البيت ولايغادر بعيداً مطلقاً وفي غالب الأحيان يشن هجوماً ناجحاً على مقداع التمر فيلتهم ما يتوفر له، وكثيراً ما يجلبون له كُمَّانه(خريطة-غرارة : كيس من نسيج أبيض) مليئة بالبرم(نور"زهر" الطلح أو السمر)وأحياناً يجلبون له الحِبِل(ثمر الطلح أو السمر بعد الإبرام) .لذا ، أصبح هذا التيس دغبجة(ما يمشي من الشحم) . لم تستطع أم محمد الإمساك بالتيس لأنه يقفز كالكرة حينما حاولت القبض عليه إلا أنها اخذت طعماً ، كتلة تمرة ومدتها إليه حتى جاء فأمسكت أخيراً.كررت النداء إلى عبدالله ليذبح التيس وسرعان ما جاوبتها بنت الجبل(صدى صوتها).فشرعت في البحث عن السكين ولم تجدها فأخذت تبحث هنا وهناك ونادت:"النفيل! عطيني الملحامة(سكين لإزالة قطع الشحم واللحم العالق بالجلد عند صنعه قربة أو صميل)فهبت الصغيرة ونزعتها من فند"غصن"شجيرة سمرة مغروزة فيه ثم مدتها إلى أمها فأمرت النفيل أن تمسك بقوايم التيس وشرعت تسن الملحامة على طرف سفن"حجر مسن" حتى أصبحت تلهب وبرقبة التيس وجهته إلى القبلة : أخت محمد:"بسم الله والله وكبار ، بسم الله والله وكبار"، "خير الفهود أناثيها..خير الفهود أناثيها" النفيل لأمها:"انتبهي غسلتيني لاتمخخينه حتى يريق دمه كله" الأم بعد فترة:"فكي ،، فكي قوايم الماعز خليه يرفس يموت". كان الضيف قد قرب من المعاميل وأخذ يحمس القهوة ويدقها فيما عمدت نوره إلى مشب الضوء في الطرف الآخر من البيت وأشعلت النار فيه وفرشت جمرات استعداداً لشوي بعض من كبد الذبيحة ، والحوايا ، والفواد ، وشلوطة الكرعان.وما هي إلا لحظات حتى رفعت أخت محمد التيس بساقه وعلقته بفند سمرة ونزعت الجلد دون أن تحدث شقوق فيه لتتخذه قربة أو صميلاً ". " النفيل، جعل زولي يسبق زولك ، هاك غسلتيني ، قعذذي رأس التيس على الضوء ..هبت الصغيرة وانجزت مهمتها..ثم صاحت أمها فيها:"ألهمام حطي الأثاثي"الاثافي"حول الضوء "هاثم ركبي قدر العشاء فوقها .."ياسعد من سمت بنتها النفيل". كان عبدالله قد فهق الدلة وشرب فنجاناً يستطعمها ثم نحرها(وضعها)قريباً من النار وفجأة سمع هفهفة من حول أذنه فالتفت إذ بالنفيل قد قذفت بأذن التيس أمامه فوق كليل الجمر(الجمر المتقد) ، فجال ببصره هنا وهناك حتى وقع نظره على الشقردية تحوف التيس وقد شطرته إلى نصفين فاشمأز من المنظر ، فأشاح ببصره بعيداً وكأن شيئاً لا يحدث. :"النفيل يابنتي ! أحلبي الناقة الملحاء وعديه على عبدالله على شان لامن تعشوا يعتبلون(مزج المرق مع الحليب). كان ضيف الرحمن قد أنهكه السفر ولعصافير بطنه شقشقة وصفيراً إلا أنه لازال متردداً جداً . لازالت به أفكاره في فلك سادر ، فالأمر جسيم ، وداهية الدواهي ، وطامة كبرى ، ورزية تصورها هو!؟ قصابة !؟ "يافرسة الحرمتاه". نضج العشاء ، وقدم الصحن فأخذ يتحنحن ويغمغم ، ولم يطق صبراً على مشاهدة التيس أمامه . فما أن يمد يده لتناول العشاء حتى يسحبها بسرعة كأنه قد مس جمرة غضا!!أخذ يردد في نفسه:"أعوذ بالله من الشيطان" .بسم الله ثم ما يلبث أن يكفها بسرعة خاطفة "..كانت الأفكار والهواجيس تدور في ذهنه وتلعب به .الجوع قتله ، وعلى الرمق الأخير ، فهو على وشك النطق بالشهادة أو يكاد يموت حتف انفه ، والنفس تحدثه: :"والله ما يتعالمون الرفاقة إني ..." ، " أنا راعي البل!!". وبعد ساعة أقبلت الشقردية إلى عبدالله، وفجأة تلهفت وتوجدت.. وانكسر خاطرها وكأنها قد صفعت على وجهها. أخت محمد ، أنا بنت أبوي!؟ التزم الصمت ، وعجم عليه ولم يستطع النطق فحاول الرد ولم يسعفه الموقف خشية انكشاف أمره وتمتم :"حاميني التختور" .. |
رد : ذبـيـحـة الشقـرديـــة
الحادي
لاهنت على قصة هذه الشقردية وابنتها النفيل والتي لها معاني كثيرة جداً اعجبني هذا التسلسل القصصي العجيب وكذلك تحاورهما السلس والطيب وتبعت ذلك بشرح للمعاني بين قوسين كان بحد ذاته جمالاً آخر للقصة ولكاتبها واما راعي البعير فالله يعينه على نفسه لصار حاميه الدختور |
رد : ذبـيـحـة الشقـرديـــة
أرحب يالحادي
لقد كنت ومازلت باسلوبك القصصي المشوق متفردا دوما شكراً لك وتقبل تحياتي ،،، |
رد : ذبـيـحـة الشقـرديـــة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مــــــــــــشكور ياغالي |
رد : ذبـيـحـة الشقـرديـــة
أخي الحادي المبدع ، لقد تعمدت التأخر في الرد رغم إعجابي الشديد بما كتبت ، وذلك لحالة الركود المخيفة التي تصيب مجالسنا ، فقد تحول معظم الأعضاء للأسف الشديد إلى قرّاء ، وأصبحت المشاركات قليلة جداً ، وأغلبها قص ولصق دون الإشارة للمصدر ، وهذا لايبشر بخير :
أعود لقصتك الشقردية ، فقد نثرت فيها معاني رائعة بقلك الجميل ، وأبدعت في صياغة الجمل وانتقاء الكلمات الجميلة كأروع مايكون ، فلله درك من مبدع متألق |
رد : ذبـيـحـة الشقـرديـــة
اقتباس:
اقتباس:
اقتباس:
اقتباس:
|
رد : ذبـيـحـة الشقـرديـــة
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الحبيب الحادي دائماً رائع ومميز في اسلوبك الفريد من نوعه ويحكي لنا عن مشكلة اجتماعية با سلوب رئع . اخي الغالي الحادي قلم بحق من ذهب ولك من اخوك تحية طيبة . أخوك ابومصعب |
رد : ذبـيـحـة الشقـرديـــة
اقتباس:
أرحب يابو مصعب : لعل ما بطنته لكم في ثنايا هذ القصة مفهوم لمن لايحتاج إلى تصريح إذ اراه قد لاحت في ذهنه .ولازال عبدالله :banana: جائعاً واكتفى بشرب العبيلة إذ إن بعضهم يرى بتحريم ( ذبيحة المرأة ) :021: . قال الحادي والله الهادي : لعلهم يتبعون فتوى من روى أحد أحاديث الأذكار المسائية الذي يقول : ( اللهم إني وضعت كرشي على فرشي ، اللهم احفظني يارب العرشي ) وسلامي للجميع |
رد : ذبـيـحـة الشقـرديـــة
أسجل مروري وكفى،، أما إعجابي فلا أعتقد أنه غير واضح. NB: ويستمر الحادي في حداء أعذب من موالات محمد عبده ليطربنا ويفيدنا. |
رد : ذبـيـحـة الشقـرديـــة
دوّر لي مثلها أتزوجها ،، يجب عليك أن تتقبل حبي وتقديري أيها الحادي. |
الساعة الآن 05:16 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع الحقوق الأدبيه والفكرية محفوظة لشبكة قحطان وعلى من يقتبس من الموقع الأشارة الى المصدر
وجميع المواضيع والمشاركات المطروحه في المجالس لاتمثل على وجه الأساس رأي ووجهة نظر الموقع أو أفراد قبيلة قحطان إنما تمثل وجهة نظر كاتبها .
Copyright ©2003 - 2011, www.qahtaan.com